تخطي للذهاب إلى المحتوى

صناعة التفاهة

أنس عوينات
18 أبريل 2024 بواسطة
أنس عوينات
لا توجد تعليقات بعد

       بعيدا عن إيديولوجيا "ما بعد الحداثة"، التي تصور العالم كمنظومة سيميائية تنعدم فيها الآفاق الواقعية و تتشكل فقط من صراعات عشوائية للإشارات و الرموز. هذا السياق الذي حاول من خلاله "ألان دونو" مَسْرَحَة الحياة الاجتماعية في كتابه "نظام التفاهة" مُفرِغا كل المؤسسات الاجتماعية و السياسية و كل الأنظمة الاجتماعية و الإيديولوجيات من المعنى، لتتحول الظاهرة الاجتماعية حسب "نظام التفاهة" إلى لوحة مسرحية يقوم فيها الفاعل الاجتماعي ، فردا كان أو مؤسسة، بالدور المخول له في إطار التفاعل الاجتماعي الذي أصبح مُبْتذَلا ما دام كل الفاعلين يعلمون سلفا نتائج أفعالهم. و هكذا يصبح النظام الاجتماعي بالنسبة لألان دونو  نظاما للتفاهة، أو مسرحية كبرى.

      أما صناعة التفاهة فهي صناعة حقيقية. تشكل خرافات ما بعد الحداثة، من قبيل ادعاءات "ألان دونو" السالفة الذكر، جانبها الأيديولوجي. و هي صناعة رأسمالية ظهرت مع ظهور "الصناعة الثقافية" التي تناولها رواد "مدرسة فرانكفورت" بالنقد. لكنها نمت إلى أن أصبحت أساسية في الصراع الإيديولوجي العالمي مع الثورة المعلوماتية.

تثمين الإنتاج الثقافي

      حين تحول العمل الثقافي (الإبداع الفني و الفكري) إلى صناعة رأسمالية خلال النصف الثاني من القرن العشرين. تغيرت بشكل جذري معايير تثمينه بشكل عام. التي انتقل مجال تحديدها من حقل الاختصاص إلى الجمهور العام. و حيث أصبحت إيرادات العمل الفني و الأدبي المالية هي ما يحدد، ليس جودة العمل بالتأكيد، و لكن يحدد مدى نجاح العمل. و الأهم من الجودة بمعايير النظام الرأسمالي هو إنتاج فائض القيمة. تحول الجمهور، المصدر الأساسي لربح شركات الصناعة الثقافية، إلى الحَكَم و محدد معايير نجاح المنتوج. لكن ساحة الإنتاج الثقافي، ورغم انقلاب المعاير هذا، ظلت محافظة إلى حد ما على شيء من التقنية و الاختصاص.

       إلا أن الثورة المعلوماتية التي يشهدها العالم اليوم ، و ظهور "مواقع التواصل الاجتماعي" ، و التي في جانبها الإيجابي ، أتاحت المجال للمبدع المغمور أن يجد جمهورا يتقاسم معه اهتماماته، و يقيم إنتاجه. فقد ساهمت هذه الثورة في إقحام فئات كبيرة من الهواة المبدعين و المتطفلين على شتى حقول الصناعة الثقافية. الشيء الذي أعاد تسطير المعايير و أغرق "سوق الصناعة الثقافية" بالتفاهة.

الانتقاء العقلي

       نستغرب جميعا للكم الهائل للأعمال "الفنية" التافهة التي تلقى نجاحا على "اليوتوب" أو المنصات المشابهة. مقابل قلة الأعمال القيمة التي تحظى بنفس النجاح أو أقل. علما أن معظم الناس، حتى متتبعي القنوات التافهة، يعترفون بتفاهة هذه المحتويات. إن السر وراء ذلك يكمن في الميل الطبيعي للعقل البشري للبساطة بدل التعقيد. فكل عمل فني قَيِّم مهما بلغت بساطته إلا و يحمل في طياته لمسات تقنية تستوجب تحريك عقل المتتبع أو الجمهور. هذا الجمهور الذي سلب منه النظام الرأسمالي كل طاقته و قوة عمله و أنهك قدراته الذهنية بنمطية الأعمال التي يؤديها في المعمل حتى أصبح كالآلة. أنهكها أيضا بالتفكير المستمر في المستقبل غير المضمون مع تكريس هشاشة الشغل. فلا يجب أن ننسى أن فئات كبيرة من جمهور القنوات التافهة هم من الطبقات الشعبية (عمالا و كادحين و عاطلين...). و صناعة التفاهة أصلا مُوَجَّهة لهم، تشغلهم عن التفكير في مشاكلهم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية.

نتائج صناعة التفاهة

      من خلال عائدات اليوتوب استطاعت امرأة أن تنتقل من حياة البؤس إلى الرفاهية، استطاعت أن تمتلك منزلا و سيارة فخمة و حسابا بنكيا ممتلئا . كل ذلك بواسطة قناة من قنوات "روتيني اليومي". يصطدم الشباب العاطل و البائس بمثل هذه الحالات، فتدفعه إلى التفكير في مجاراتها. فبدل أن تنصرف طاقات الشباب اليوم للبحث و العلم و المعرفة التي لن تمنحه شربة ماء، تنصرف كل طاقته الذهنية إلى البحث عن تفاهة تصنع جمهورا و تَذُر أموال "اليوتوب".  

       إن تشجيع صناعة التفاهة لا يقتصر على مواقع التواصل الاجتماعي، فالإعلام العمومي هو سبب انحطاط الذوق الفني العام، لأن استمراره في بث البرامج التلفزية الفارغة من أي محتوى ثقافي و إغراقه بالمسلسلات التافهة (المكسيكية أو التركية ...) أدى إلى صناعة جمهور قادر على متابعة أدنى مستويات التفاهة. كما ساهمت السياسات الإعلامية، سياسات الرأي الواحد، التي عملت على إبعاد الفنانين و الأعمال الفنية الملتزمة بهموم و قضايا الشعوب، إلى انحسار الإنتاج الثقافي الحقيقي. كما أن استمرار تدفق هذا السيل الجارف من صناعة التفاهة ينذر بانهيار أساسات أي مستقبل للعمل الثقافي. 

صناعة التفاهة تغذي الانحراف الاجتماعي:

       إن الانحراف الاجتماعي  نتيجة حتمية لسوء استثمار الثروة البشرية. ففي ظل واقع تعليمي مأزوم، أو في أحسن الأحوال، تعليم في خدمة رأس المال، يُخَرِّج آلات لِتُشَغِّل الآلات، و يستمر في تهميش البحث العلمي و الفلسفة و الآداب و العلوم الإنسانية و الفنون و هي المجالات التي تميزنا عن الآلات و الحيوان. و في ظل غياب الاستقرار الاجتماعي، الذي أساسه التشغيل، و الذي يشكل أساس الاستقرار النفسي. فإن المجتمع يصنع الانحراف الاجتماعي، و يغذيه بصناعة التفاهة التي تُفرغ الحياة الاجتماعية من المعنى، فتنهار المعايير الأخلاقية و القيم و تنفتح الأبواب على شتى أنواع الانحراف.


في
تسجيل الدخول حتى تترك تعليقاً