الجزء الأول: العلمانية بين الأديان التبشيرية و الأديان الإثنية
1- حول الدين:
يستأثر الدين بالجانب الأكبرو الأهم في تشكيل الثقافة و الوعي الجماهيري و يحدد أهم صفات التصور الجماعي للمجتمع و التاريخ. فتخزن اللغة مقولاته المنحوثة عبر تاريخ نشوئه و تطوره، و تحميها، كما تحتضن العادات و التقاليد و أساليب الفن الشعبي تصوره للعالم، للكون و الإنسان و الغيب، في قوالب ممارسات و علاقات تتغير تمركزاتها حسب طبيعة كل دين، تارة حول الإنسان و تارة حول اللاهوت و تارة حول الطبيعة.كما يعدد فيورباخ التصنيفات الثلاثة للدين بحسب هذه التمركزات الثلاث، دين الإنسان و دين اللاهوت و الدين الطبيعي في كتابه "أصل الدين" .
على اختلاف الأديان و الثقافات المولدة لها أو المنبثقة عنها، فإنها تنقسم إلى ثلاث لحظات أساسية، تندرج كل لحظة ضمن مستوى معين و تحدد مجالا خاصا من العلاقات.
فأما لحظة "العقيدة" بما هي ارتباط إيماني روحي بعالم غيبي فترتبط بالربوبية، أي بعالم الرب أو الأرباب و كل ما يرتبط به أو بهم و بأفعالهم . و هي بهذا المعنى تندرج ضمن مستوى الفكر الخاص و الفردي و تحدد العلاقة الوجدانية الخاصة بين الإنسان و الرب أو الأرباب.
أما لحظة "العبادة" و الطقوس و هي مجمل التشريعات المرتبطة بأفعال إلزامية أو اختيارية فردية، تأثث بنية العلاقة بين الفرد و الإله و تتحدد بها، فتندرج ضمن مستوى الفعل الخاص و الفردي. و قد شكلت هذه اللحظة، أي لحظة "العبودية"، المكمل العملي للحظة العقيدة عبر تاريخ الدين، أي منذ الأديان الطبيعية البدائية و استمرت هذه العلاقة حتى الأديان الحديثة و الأكثر تعقيدا. و تكتسي جميع تشريعات "لحظة العبادة" في كل الأديان طابع الفردية رغم الممارسة الجماعية الظاهرية لعدد منها مثل الصلاة و الحج في الإسلام و القداسات المسيحية كقداس العشاء الأخير و غيرها و ملاحم تقديس الآلهة الإغريقية و الأهازيج و الرقصات الجماعية في الأديان الطوطمية البدائية و التي مازالت منتشرة لدى بعض القبائل المتفرقة في كل من أستراليا و أمريكا اللاتينية و إفريقيا. و غيرها من الطقوس الجماعية في كل الأديان الهندوسية و البوذية و الديانة الزرادشتية.إن الطابع الفردي لهذه الطقوس الجماعية نابع من كونها لا يترتب عنها فعل أو أثر في العلاقات الاجتماعية. بل تعمل فقط كاسترضاء للإله أو الآلهة و لنيل الخلاص أو الجنة بعد الموت أو استجلاب الخير و طرد الشر في الأديان البدائية.
أما لحظة "الشريعة"، فهي تلك البنية التشريعية التي تؤطر العلاقات الإنسانية كالزواج و الطلاق و منظومة الإرث و منظومة العقوبات و النظام السياسي ...إلخ، و التي تنبع من الاعتقاد في أحقية الرب/الإله (الواحد أو المتعدد) وحده في تدبير شؤون عباده الحياتية. أي انفراده بالسلطتين الدينية و الزمنية . وتندرج هذه اللحظة في مستوى الفعل العام و الجماعي. و هو ما يجعل علاقتها بأصل و جوهر الدين أو حتى وجودها أصلا مرتبطا بمحيط منشأ هذا الدين.
إن مدى ارتباط هذه اللحظة الأخيرة ، أي لحظة الشريعة، بجوهر الدين، أو وجودها من عدمه، هو ما يحدد طبيعة ارتباط هذا الدين بالدولة أو النظام السياسي. و من خلال استقراء تاريخ و تطور عدد من الأديان يظهر أن أن هناك ارتباط كبير بين الدين و التنظيم و العلاقات الاجتماعية و علاقات السلطة و الدولة في جل الأديان الإثنية أو القومية مثل الأديان الطوطمية البدائية و معظم الأديان "الوثنية" و الأديان الهندوسية و الديانة اليهودية . بينما ينفصل التنظيم الاجتماعي و السياسي عن الدين خصوصا عند المنشأ أو في مراحله التاريخية الأولى في جل الأديان التبشيرية كالإسلام و الزارادشتية و المسيحية... و في الغالب يرجع سبب ارتباط الدين بالتنظيم الاجتماعي لأسبقية هذا التنظيم على نشأة الدين الذي ينبثق عنه في الغالب في فترة من فترات تطوره. حيث لا تكون نشأة الدين إلا لضرورة إضفاء نوع من القداسة على هذا التنظيم الاجتماعي.
2- اليهودية و أسبقية النظام السياسي على الدين:
فاليهودية مثلا، ديانة إثنية ، أساسها الانتساب إلى قبيلة بني يعقوب. حيث لم يعرف اليهود نظاما دينيا تحكمه طقوس و شعائر و معتقدات موحدة إلا عند ظهور عزرا الكاتب أو النبي عزير سنة 445 ق.م رغم ما يزعم من نسبة أسفار الشريعة الخمسة من التوراة لموسى كليم يهوه. على عكس التنظيم الاجتماعي و السياسي الذي عرف تحكم الأنبياء و الكهنة و الملوك "مسحاء الرب" الذين يحكمون قبائل أسباط يعقوب بالأمر المباشر من "يهوه" الذي يصلهم عبر أنبيائه و الكهنة خدام الهيكل.
فللتقرب من يهوه (أو يهوا، إيل،ألوهيم،أدوناي، رب الجنود، وهي أسماء الإله عند اليهود).كان "كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه" (سفر القضاة 6-17) إلى أن "أتى عزرا الكاتب بالشريعة أمام الجماعة من الرجال و النساء، و كل فاهم ما يسمع...، و قرأ فيها... و كان يقرأ في سفر شريعة الله يوما فيوما... و اللاويونأفهمو الشعب الشريعة و قرأوا في السفر في شريعة الله ببيان، و فسروا المعنى ، و أفهموهم القراءة" (سفر نحميا الإصحاح 8).
و حينها التزم بنو إسرائيل بشريعة الرب و قطعوا ميثاقا على أنفسهم باتباع كل ما توصي به . "و وضع رؤساء الشعب أختامهم على هذا الميثاق و كذلك فعل اللاويون و الكهنة و الحاضرون" (سفر نحميا 9 – 38).
و كانت هذه هي البداية الحقيقية لليهودية كديانة تنظمها شريعة مكتوبة و "قد عمل عزرا على جمع التراث الديني لبني إسرائيل ، كما عمل على ترتيب المدونات الإسرائيلية الموروثة و إعادة النظر في مضامينها، و قد ساعده في ذلك فريق من اللاويين (و هو سبط من أسباط بني إسرائيل احتكرو الخدمة الكهنوتية).و قد "استمر جمع التراث اليهودي في بابل بعد وفاة عزرا و اكتمل هذا العمل في مطلع القرن الثالث قبل الميلاد و بذلك أصبح لليهود "كتاب مقدس".
و كل هذا يثبت أسبقية النظام الاجتماعي و السياسي على الدين و أهمية الانتساب إلى شعب يهوه المختار في الانتساب للديانة اليهودية رغم بعض المراحل التاريخية التي اضطرت فيها اليهودية للانفتاح و قبول انتساب أقوام أخرى للدين اليهودي بدرجة أدنى من درجة أصحاب النسب الإسرائيلي . و رغم ذلك يظل طابع الديانة اليهودية غير تبشيري .
3- المسيحية و ظهور مفهوم العلمانية:
و رغم ارتباطها التأسيسي الوطيد بالديانة اليهودية نشأت الديانة المسيحية كديانة تبشيرية في قلب الإمبراطورية الرومانية الوثنية زاهدة في كل عمل سياسي . و معلنة أن "ما لله، لله، و ما لقيصر، لقيصر" ، خاضعة لكل ما لاقته من اضطهاد من طرف الأباطرة الذين رأوا في الكنيسة تهديدا لوحدة و أمن الإمبراطورية خصوصا من خلال رفضها لأي عمل عسكري و حربي على الإطلاق . و هو الأمر الذي كان يدفع كل المنتسبين لهذا الدين الجديد، و الذي أخذ في الانتشار في كل أرجاء الإمبراطورية، لرفض الانخراط في الجيش.
و بعد التحول الجذري في علاقة المسيحية بالإمبراطورية على عهد "قسطنطين" و تحول الكنيسة من موقع المضطهد (بفتح الهاء) إلى موقع الاستشارة السياسية و رعاية الإمبراطورية لتتحول فيما بعد إلى الدين الرسمي للدولة المضطهد (بكسر الهاء) لباقي المخالفين . اضطر الإكليروس إلى خلق مفهوم العلمانيين لتوصيف المسيحيين غير الإكليروس . المسموح لهم ،بشروط، الانخراط في العمل الحربي للإمبراطورية و بالتالي نزع أسباب الخلاف بين الكنيسة و الدولة . مع استمرار تحريم أي عمل حربي بالنسبة للإكليروس . و بعد أن تطور مفهوم الحرب العادلة الذي ظهر في العهد الروماني "للحرب االمقدسة" الذي ظهر مع مطلع الحروب الصليبية. تحولت الكنيسة بشكل مباشر لممارسة الحرب و السياسة منذ القرن العاشر الميلادي. و هذا ما يجعل مطلب العلمانية خلال عصر النهضة الأوروبية ، مطلبا لرجوع المسيحية إلى عهدها الأول الزاهد في ملكوت الأرض و مطلبا لرجوع العلمانيين لسدة الحكم بدل الإكليروس.
اختلف الإسلام في نشأته عن ظروف نشأت و ترعرع المسيحية و ارتبط ظهوره بهموم قضايا التنظيم الاجتماعي . و هو الأمر الذي جعل الارتباط الظاهر بين الدين و الشريعة ، يصل مداه حتى النصوص المقدسة المؤسسة "القرآن و السنة" لكن ارتباطه التأسيسي أيضا بالمسيحية، و الذي تؤكده عدة آيات قرآنية مثل الآية التي تقول: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه" من سورة فاطر. يجعل التمفصل بين الدين و الشريعة في الإسلام أمرا قائما منذ التأسيس رغم ادعاءات ارتباط الشريعة بأصل الدين.
الجزء الثاني: الدين و الشريعة في الإسلام
اختلف الإسلام في نشأته عن ظروف نشأت و ترعرع المسيحية و ارتبط ظهوره بهموم قضايا التنظيم الاجتماعي . و هو الأمر الذي جعل الارتباط الظاهر بين الدين و الشريعة ، يصل مداه حتى النصوص المقدسة المؤسسة "القرآن و السنة" لكن ارتباطه التأسيسي أيضا بالمسيحية، و الذي تؤكده عدة آيات قرآنية مثل الآية التي تقول: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه" من سورة فاطر. يجعل التمفصل بين الدين و الشريعة في الإسلام أمرا قائما منذ التأسيس رغم ادعاءات ارتباط الشريعة بأصل الدين.
1- حول الانفصال العملي للدين عن الشريعة خلال الصدر الأول للإسلام:
لقد رأيت في كتاب ا"لحقيقة الغائبة" للشهيد فرج فودة بعض الحقيقة و كثيرا من الهروب إلى الأمام فقد مر مرورا غير مقنع على فترة هامة من التاريخ الإسلامي و التي سينفض بحثها الغبار عن حقيقة دينية الدولة الإسلامية و هي فترة خلافة أبي بكر و التي تنطوي على حقائق تدفعنا لطريقين لا ثالث لهما . إما القول بضرورة ربط الدين بالدولة،أو بمعنى أدق، اعتبار النصوص الدينية الواردة في الشريعة واجبة التطبيق مهما اختلف الزمان و المكان و الظروف . و هنا لا نملك إلا أن نقول بابتعاد أبي بكر عن الدين .أو نقول بالفصل بين الدين و الدولة، فنقر أبا بكر أو نختلف معه فيما بدر عنه من أمور الدولة التي لا صلة لها بالدين. فبعد الاطلاع على أمهات كتب التاريخ الإسلامي و التي استند إليها الشهيد في بحثه القيم ، وجدت حججا شتى على أطروحته التي تفترض التباعد بين الدين و السياسية في ما يسمى بالعصر الزاهر للدولة الإسلامية. فرغم بعض الإشارات المتفرقة التي لمح إليها في بحثه حول نفس الموضوع فيما يتعلق بما يسمى عصر الخلافة الراشدة، إلا أنه يفترض ارتباطا بين الدين و الدولة في هذه الفترة، على عكس ما تثبته هذه الإشارات من قبيل تفرقته بين حروب الردة و حروب الزكاة على عهد أبي بكر، فحسب "فرج فودة" ،خاض أبو بكر نوعين من الحروب و هما حروب الردة التي حارب خلالها القبائل التي أعلنت ارتدادها عن الإسلام و فكت ارتباطها نهائيا ببيعته و بالتالي بالدولة التي تأسست في سقيفة بني ساعدة. و النوع الثاني هو حروب الزكاة و التي حارب فيها القبائل التي منعته الزكاة و هددت بيت مال المسلمين "الخزينة العامة للدولة الناشئة" بالإفلاس و هو الأمر الذي لم يحظ بإجماع الصحابة، و من هذه الإشارات، اجتهادات عمر بن الخطاب مثل منعه "المؤلفة قلوبهم" من نصيبهم في الزكاة رغم النص القرآني الصريح و امتناعه عن قطع يد السارق رغم النص الصريح أيضا، "السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما"، و تراكم الثروة على عهد عثمان بن عفان . و كل هذه الإشارت لا يرى فيها الدكتور فرج فودة أي تنقيص من ارتباط الدولة بالدين إلا في النزر اليسير ، كما يفترض ارتباطا لا مثيل له بينها في كل من عهدي عمر ابن الخطاب و علي ابن أبي طالب.
و على العكس تماما، فإني افترض بل أؤكد أنه كلما حضرت الحنكة السياسية في تدبير الدولة أدبرت الشريعة و كلما اقترنت الشريعة بالدولة ظهرت الفتنة و قلت هبة الدولة و ضعف السلطان.
لقد كان أبو بكر قائدا سياسيا محنكا عرف كيف يوظف الشريعة في الدولة و كيف و متى يتجاوزها لتثبيت دعائم الحكم، و تابعه عمر ابن الخطاب على نفس النهج فخالف النصوص مرارا فاسحا المجال لعمل العقل و التدبر في الواقع ، و مهد عثمان لملك بني أمية. و ليس في كل هذا في نظري و نظرهم أي ابتعاد عن الدين بل هو الفهم الصحيح للدين . فهم يفصل في النصوص الدينية بين الدين و الشريعة و يؤكد ثبات الدين و حركية الشريعة و عدم تعارض مخالفة الشريعة مع صحيح الدين، و هو الأمر الذي تدل عليه قرائن نصية و عملية كثيرة.
2- الأدلة النصية على انفصال الشريعة عن الدين في الإسلام:
و إضافة إلى القرائن العملية التي تؤكد انفصال الشريعة عن أصل الدين في الإسلام هناك أدلة نصية عديدة و لعل أهمها و أكثرها وضوحا. نزول سورة التوبة كاملة بأحكامها التشريعية و كل ما ترتب عنها من تدابير حربية و غيرها بعد الآية التي تقول : "اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا" الآية.و هي الآية التي نزلت بعد إتمام أحكام الحج، الركن الخامس من أركان الإسلام، و من هنا يتأكد خروج الشريعة من تصنيف الدين في الإسلام و يؤكد هذا الأمر الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه و الذي يقول: (إذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به، و إذا كان من دينكم فإلي) و هو الحديث الذي يحلوا لكثير من (الفقهاء) ربطه بحادثة تأبير النخل التي ورد فيها متجاهلين لفظه العام و هم أنفسهم الذين يتغنون في قضايا كثيرة بقاعدتهم الأصولية التي تقول: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصية السبب".و من القرائن أيضا استجابة رسول الإسلام لمشورة الحباب بن المنذر بن الجموح في معركة بدر حيث دار بينها الحوار التالي: " قال الحباب بن المنذر : يا رسول الله ، أرأيت هذا المنزل ، أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ، ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة." الحديث.
و في سياق الفصل بين الدين و الشريعة في النصوص المؤسسة للإسلام هناك أحاديث مشهورة تحدد الدين في المسائل العقدية و العبادات فقط، نذكر منها حديثان مشهوران : أولهما الحديث الذي يسمى حديث جبريل، و هو حديث طويل سأذكره هنا بنصه كاملا لأهميته في سياقنا هذا .
عن عمر بن الخطاب قال : بينما نحن جلوس عند رسول الله (ص) ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي (ص) فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه.
وقال : " يا محمد أخبرني عن الإسلام " .
فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا.
قال : " صدقت " .
قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدقه.
قال : " أخبرني عن الإيمان " .
قال:أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
قال : " صدقت " .
قال : " فأخبرني عن الإحسان ".
قال :أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قال : " فأخبرني عن الساعة ".
قال : ما المسؤول بأعلم من السائل.
قال : " فأخبرني عن أماراتها ".
قال : أن تلد الأمة ربتها ، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاه ، يتطاولون في البنيان.
قال عمر: ثم انطلق فلبث مليا .
ثم قال :يا عمر ، أتدري من السائل ؟
قلت : "الله ورسوله أعلم " .
قال : إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) رواه مسلم) .
في هذا الحديث كما في الحديث الثاني الذي سأذكره لاحقا، إجمال صريح للدين في قيم ثلاث ، و هي الإسلام و الإيمان و الإحسان. و من خلال المضامين الواردة في شرحها نستطيع القول تماشيا مع اللحظات المشكلة للدين بالمعنى العام للكلمة كما حددناها سابقا في : لحظة العقيدة و لحظة العبادات و لحظة الشريعة. أن الدين في هذا الحديث يتحدد أساسا و تخصيصا في لحظتي العقيدة و العبادات أما الشريعة بوصفها محددات النظام الاجتماعي و أطر العلاقات الاجتماعية فلا مكان لها في مفهوم الدين حسب الحديث. فقول الرسول في آخر الحديث "إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم"، قول واضح و صريح ، معناه أن التعاليم الواردة أعلاه هي "دينكم" لا غيرها فلم يقل (بعض دينكم) أو (شيئا من دينكم) أو (جزءا من دينكم) بل أجمل الدين كله في هذه التعاليم المحددة.
و للإشارة هنا، فحديث جبريل هذا، رواه مسلم من حديث عمر، و المعلوم في (علم الحديث) أن أحاديث عمر نادرة جدا مثلها مثل مرويات أبو بكر و علي و عثمان و غيرهم من كبار الصحابة على عكس المكثرين مثل أبي هريرة و أنس بن مالك و عبد الله بن عباس. إن رواية عمر لهذا الحديث بالذات تؤكد ما قلته آنفا و هو أن "الخلفاء الراشدين" و على رأسهم أبو بكر و عمر كانوا يفهمون الدين بهذا المعنى فقط و كانوا يفهمون أيضا أن الشريعة متحركة لا يمكن أن يحدها نص فاجتهدوا فيها رغم النصوص التي حنطها من جاء بعدهم لأسباب سياسية سنفصل فيها لاحقا.
أما الحديث الثاني، فقد يبدو ذكره هنا من باب عطف الخاص على العام، لكني أرى أن له أهمية خاصة و هو مما رواه البخاري و مسلم ، عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال: " سمعت رسول الله (ص) يقول:بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان." فإضافة إلى ما يقره هذا الحديث كسابقه من حصر للإسلام (الدين) في العقيدة والعبادات. فإن مبناه يأتي بتعبير حاسم : "بني الإسلام" التي تعني سقوط الإسلام بسقوط أحد أركانه كما تفيد الحصر لهذه الأركان في الخمسة المذكورة. و لا مكان للشريعة و نظام الحكم في بناء الإسلام .
و لا يخفى على القاصي و الداني غياب أي نص أو أثر يحدد دينيا بشكل لا غبار عليه معالم النظام السياسي في الإسلام، أصل الشريعة ومدارها، و أساسه شكل التداول على السلطة ما جعل الصدر الأول يتخبط في عدة أشكال مختلفة لتفويت السلطة انتهت بالملك الوراثي على عهد الأمويين على طريقة الحكم بالأمر الإلهي حيث الحاكم هو خليفة الله في الأرض مسنودا بالعقيدة "الجبرية" . و لم يكن الأمر فريدا في عصره فقد سبقه بسنين قليلة و في الجوار القريب، عظيم بيزنطة، الحاكم بأمر الله "هرقل" الذي استند هو الآخر إلى هرطقة "المونوثيلية " التي ابتدعها للجمع بين الكنائس الشرقية "الديوثيلية" و الغربية "الديوفيزية". و ليس بعيدا أيضا أسس الساسان في بلاد فارس لنفس المنطق في الحكم بالجمع بين الزرادشتية و نظام الحكم الساساني فجاء الأفيستا (الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية) بما يشتهيه نظام الحكم الساساني و هو الكتاب الذي يجمع الباحثون على أن صيغته التي وصلتنا لم يتم صياغتها إلا على عهد الساسان بعد أن أحرق الإسكندر المقدوني نسخته الأولى.
الجزء الثالث: الحكم بالأمر الإلهي: الساسان- هرقل- الأمويين.
بطرق مختلفة و خلال فترات تختلف بعدا و قربا من زمن نشأة الدين توطدت العلاقة بين الأديان التبشيرية الثلاث و الدولة، الزرادشتية و المسيحية و الإسلام. و أسست لعلاقة بين الدين و السياسة، تقترب منها في الأديان الإثنية كاليهودية مثلا. فأصبح الحكم بالأمر الإلهي، حيث الحاكم ظل للإله على الأرض، منفذ لأوامر الله في خلقه. يستمد شرعيته، أو تستمد سلالته شرعيتها، من الدين و ليس من كفاءته و معرفته و قدرته على التسيير. و حيث الحكم: ملك أوتوقراطي يورث بحق النسب.
هكذا تحولت الزرادشتية لنظام سياسي بعد مرور أزيد من تسعة قرون على ظهور زرادشت .و ذلك على يد الساسان. كما حاول هرقل ترسيم هرطقته "المونوثيلية" لتدعم حكمه الأوتوقراطي و ليوحد الانقسام المسيحي الحاد بين الشرق و الغرب حول طبيعة المسيح و ذلك بعد أزيد من ستة قرون من التحولات في علاقة المسيحية بالدولة خلال الفترتين الرومانية و البيزنطية. أما الإسلام، فلم تمر إلا ثلاثون سنة ليستولي الأمويون على حكم الحسن ابن علي ليحولوه ملكا أوتوقراطيا وراثيا مستندا إلى العقيدة الجبرية، حيث أصبح أمير المؤمنين خليفة لله في أرضه بعدما كان خليفة رسول الله ، و أصبح رأي الخليفة في كل الأمور الدينية و الزمنية لا يناقش بعدما كان الخليفة يقبل أن تقومه رعيته بالسيف.
الساسان و ترسيم الزرادشتية دينا للدولة
لقد توالت أحداث الضياع التي أصابت "الأفيستا" الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية. فالزرادشتيون يتهمون الإسكندر المقدوني، الذي غزا إيران في القرن الرابع قبل الميلاد بإحراقه. ما جعلهم يتداولونه شفاهة إلى غاية العهد الساساني، حيث أمر الأباطرة الساسانيين بإعادة جمعه، فجمع في 21 جزءا لتضيع ثانية أثناء انتشار الإسلام و غزوه لمناطق الزرادشتيين في القرن السابع الميلادي ، حيث لم يستطع الزرادشتيون الفارون بدينهم إلى الهند، سوى الحفاظ على ربع هذه الأجزاء.
لقد عاش زاردشت في مطلع القرن السابع قبل الميلاد. و انتشرت الزرادشتية بين كافة الشعوب الآرية انطلاقا من مناطق الميديين في الشمال الشرقي لإيران، موطن زرادشت ، نحو الشعوب الفارسية، و ذلك إبان حكم الميديين، و لم تعتمد كدين رسمي للدولة إلا على عهد الساسانيين رغم اتفاق المؤرخين حول زرادشتية كافة السلالات التي تعاقبت على حكم إيران، باستثناء السلالة السلوقية التي عقبت غزو الإسكندر المقدوني .
حكم الميديون الذين تمكنوا من توحيد القبال الهندوأوربية (الآرية) شمال إيران من سنة 701 إلى غاية 550 ق.م . و قد استطاعوا القضاء على الدولة الآشورية عام "590 ق.م". و قد أنهى "كورش الكبير" (560 – 529 ق.م) حكم الميديين ليأسس لحكم السلالة الأخمينية الفارسية، زاردشتية الديانة، و هو الذي اشتهر بالقضاء على الدولة البابلية في عهد الملك البابلي "نابونائيد". و قد تميزت معاملة قورش لسكان بابل و أسراها و آلهتها بالاحترام التام. فقد نقل عنه أنه بعد إسقاطه الإمبراطورية البابلية، اتهم الملك "نابونائيد" بعدم احترام آلهة بلاده. و سبب هذه التهمة يرجع إلى أن الملك نابونائيد قد قام بكل المحاولات الممكنة لصد خطر الأخمينيين الذي كان يواجه مملكته، فعمل جاهدا على توحيد القبائل الآرامية و إرضاءا لهذه القبائل، أدخل طقوس إله القمر "سين" إلى مدينة بابل ، و بنى لهذا الإله معبدا فيها، فخلق ذلك تذمرا لدى كهنتها، و إرضاء لهؤلاء الكهنة و أهل بابل قام كورش بإعادة "تماثيل الآلهة الرئيسية لبابل إلى معابدها الخاصة". كما قدم القرابين للإله "مردوخ" الإله الرئيس لمدينة بابل ، كما عرف بمعاملته الحسنة للأسرى الذين سمح لهم بالعودة إلى بلدانهم. إلا " أن بعض المؤرخين يؤكدون أن هذا التسامح لم يشمل جميع الأسرى و إنما شمل اليهود فقط" الذين عانو طوال قرون من زمن السبي البابلي.و استمرت سنة التسامح الديني هذه طوال عهد الأخمينيين دليلا على ابتعاد الزرادشتية عن السياسة. فكذلك تعامل "قمبيز" الإمبراطور الذي غزا مصر و أسقط حكم الفراعنة باحترام مع آلهة و معابد المصريين، كما أنه لم يحاول حتى تغيير الزي الرسمي للملك ، "إذ صور قمبيز في إحدى المقابر المصرية و هو يرتدي اللباس المصري"، و كذلك فعل "دارا" من بعده.و قد انهار حكم السلالة الأخمينية على يد الإسكندر المقدوني الذي حارب الديانة الزاردشتية و أحرق ما سقط في يده من نسخ الأفيستا ، محاولا عولمة الثقافة الهيلينية و ذلك سنة 331 ق.م. ليستمر حكمه لمدة تقل عن 13 سنة ، حيث توفي سنة 323 ق.م تاركا أقوى إمبراطورية عرفها العالم القديم تنقسم بين قواده حيث حكم "سلوقس" أو "نيقاطور" إيران و "أنيوكس" اليونان و وقعت مصر تحت حكم "بطليموس" .وقد استاطاع "الإشكانيون" الفريثيون أن ينتزعوا حكم إيران من سيطرت السلالة السلوقية سنة 251 ق.م ليدوم حكمهم لها إلى غاية 226 م.
بدأ مع الساسانيين عصر إيراني جديد ، دخلت معه الزاردشتية مسرح الأحداث بقوة و بشكل مغاير تماما لما كانت عليه من قبل.فلقد كان : "أردشير" ابن "بابك" ابن "ساسان". مؤسس حكم السلالة الساسانية (226-240 م) يعتقد أن "الملك و الدين أخوان توأمان لا يستقيم أحدهما إلا بصاحبه" كما جعل من الملك حارسا للدين معتبرا أن "الملك الذي لا دين له غير قابل للاحترام"، و تفعيلا لهذه المبادئ ، قام أردشير "بتوحيد البلاد تحت لواء دين رسمي للدولة" حيث اعتبر "الزاردشتية دينا رسميا للإمبراطورية الساسانية" ، كما أمر رجال الدين بجمع الكتاب المقدس للزاردشتية "الأفيستا" و منحهم صلاحيات واسعة محددا دورهم في "إقصاء الديانات الأخرى و تضييق الخناق على معتنقي تلك الأديان في الإمبراطورية ". مؤسسا بذلك عهدا جديدا للزاردشتية لم تشهده من قبل .
و قد قسم الناس إلى أربع طبقات:
-طبقة رجال الدين (آثروان)
-طبقة رجال الحرب (أرتيشتران)
-طبقة كتاب الدواوين (دبيران)
-طبقة الشعب ،الفلاحين (وستريوشان) و الصناع (هوتخشان).
و رسم حدودا صارمة لكل من هذه الطبقات"، كما منع انتقال الناس من "طبقة لأخرى لأنه رأى في ذلك فساد الملك".و أكثر من هذا فقد منع الحرفي أن يغير حرفته إلا تحت شروط خاصة يحددها رجال الدين.و هكذا عززت الإمبراطورية الساسانية مكانة رجال الدين في الإدارة السياسية بمنحهم مكانة تسمو فوق بقية طبقات المجتمع كما حددت أدوارهم في السهر على الحفاظ على طبقية المجتمع و كذا محاربة الأديان الأخرى. إلا أنه لم يبق دورهم مقتصرا على هذه الأمور الثانوية بل سيتجاوزونها إلى التدخل في كل الأمور السياسية
مثل عدد من الباحثين في تاريخ الديانة الزرادشتية ، أعتقد أن "الأفيستا" ، كتابها المقدس، لم يكن له وجود مكتوب على الأقل بأجزائه الواحد و العشرون قبل العهد الساساني. لأنه لا يعقل أن يكون الإسكندر المقدوني قد حرق كل نسخه إن صح هذا الخبر ، فربما تناقل الزاردشتيون تعاليم زاردشتشفاهة إلى أن تم جمعها في عهد الساسان. مع الجزم بأن التعاليم المتعلقة بالشريعة لم يكن لها وجود أصلا لا شفاهة و لا كتابة و تم إقحامها من قبل الساسانيين و سبب هذا الاعتقاد هو عدم ظهور أي أثر تاريخي لهذه الشريعة لا على عهد الميديين و لا الأخمينيين و لا الإشكانيين (الفريثيين). و التطبيق الوحيد الذي عرفته هذه الشريعة هو على عهد الساسانيين ، مع العلم أن كافة السلالات الآنفة الذكر كانت تعتنق الديانة الزاردشتية. ما يجعلنا نجزم بأن الديانة الزاردشتية لم تطالب الدولة أبدا باعتمادها كدين رسمي و لم تطالبها أبدا بتطبيق شريعة أو قانون معين كما لم تدعوها لمحاربة الديانات الأخرى بدليل التسامح الذي طبع علاقة جميع السلالات التي تعاقبت على حكم فارس مع الأديان الأخرى ما عدا السلالة الساسانية التي أرادت دعم سيطرتها السياسية بالسيطرة الروحية أيضا فنسبت قانونها للدين الزاردشتي و اعتبرت المخالف للدين الزاردشتي معارضا سياسيا للدولة فكان أكبر ضحايا هذا التوجه الجديد هم مسيحيوا إيران الذين اتهموا بالعمالة للدولة البيزنطية.
المسيحة و الحكم بالأمر الإلهي
بعد المجمع المسكوني الأول بنيقية سنة 325 ميلادية و الذي ترأسه قسطنطين ، الإمبراطور الوثني الذي احتضن المسيحية. توالت الخلافات المسيحية حول طبيعة المسيح (أو الخلافات الكريستولوجية). فبعد أن حرم هذا المجمع آريوس و حكم على الآريوسية بأنها هرطقة مخالفة للعقيدة القويمة (الأرتوذوكسية) لرفضها الاعتراف بأن المسيح مساو للآب في الجوهر. ظهر خلاف جديد بخلقيدونيا قسم الكنائس إلى شرقية يعقوبية و غربية كاثوليكية. فقد انعقد سنة 451 م مجمع مسكوني بخلقيدونيا أقر مذهب "الديوفيزية" أو عقيدة الطبيعتان و الجسد الواحد للمسيح و هو المذهب الذي رفضه البابا كيرولس و الكنائس الشرقية و القبطية و على رأسها كنيسة الإسكندرية التي تشبثت بمذهب "الديوليثية" أو عقيدة الطبيعة الواحدة التي عبر عنها البابا كيرولس بقوله "طبيعة واحدة للإله الكلمة المتجسد" و التي تفسرها الكنائس الشرقية "باتحاد اللاهوت بالناسوت بغير اختلاط و لا امتزاج و لا تغيير".
في ظل هذه الانقسامات العقدية ، استلم هرقل، بعد انقلابه على الإمبراطور فوقاس، إمبراطورية ممزقة داخليا و تعاني خارجيا من توالي الحملات الفارسية و الهزائم المتكررة إلى أن اضطر إلى طلب الصلح مقابل ضرائب باهظة عندما حاصر الفرس أسوار القسطنطينية. بعدها عمل على النهوض بالأحوال الداخلية للإمبراطورية حتى استطاع القيام بحملة مضادة استعاد فيها كرامة و مجد بيزنطة و ألحق هزائم كبيرة بالساسان الفارسيين.
عززت انتصارات هرقل على الساسان و إصلاحاته السياسية و الإدارية الداخلية مكانته كإمبراطور قوي. و هو ما جعله يعتقد أنه يستطيع الجمع بين السلطة الدينية و السياسية و من قبلها توحيد المذهبين العقديين المتناحرين منذ مجمع خلقيدونيا. فابتدع "المونوثلية" أو عقيدة المشيئة الواحدة و الطبيعتين للمسيح . و هي عقيدة تقر مبدأ الطبيعتين الكاثوليكي ، أي انفصال اللاهوت عن الناسوت في شخص المسيح، لكنها تقول أن له مشيئة أو إرادة واحدة و هي التي أيدته في انتصاراته على الساسان و هو ما يدل عليه إضفاء صبغة القدسية على حملاته العسكرية من خلال اتخاذ صورة المسيح رمزا لجيشه . و هي أول مرة يصل فيها تسامح المسيحية مع الحرب لهذه الدرجة. فقد اعتبر حروبه مقدسة لأنه الحاكم بأمر الله. و رغم أن ترسيم مفهوم الحرب المقدسة بدل مفهوم الحرب العادلة في المسيحية تأخر إلى غاية القرن التاسع أو العاشر الميلادي مع بداية الحروب الصليبية . إلا أنه مع هرقل يمكن اعتباره أول ظهور لها رغم اضمحلالها بسرعة.
بعد أن أصدر هرقل "في عام 638م منشورا يعرض فيه مذهبه "المونوثيلي" و الذي تبناه و دافع عنه البابا "هونوريوس"، استمر كعقيدة شبه رسمية إلى أن توفي هرقل سنة 641م حيث بدأ الارتداد عن هذه العقيدة بعد ذلك حتى رفضها المجمع المسكوني السادس أو مجمع القسطنطينية الثالث المنعقد سنة680م . حيث حكم على المونوثيلية بأنها "هرطقة" مخالفة للعقيدة القويمة كما "حكم على البابا "هونوريوس بأنه يحابي الخارجين على الدين" (قصة الحضارة- 1-4 ص 352).
خليفة الله في خلقه (عصر الأمويين)
استلهم الأمويون مبدأ الحكم بالأمر الإلهي كما أعتقد من الحضارة البيزنطية التي يعتقد عدد من المستشرقين أنها أثرت بفعل القرب و الاحتكاك الذي دام لسنوات بينها و بين الإسلام في عدد من البنى في الحضارة و الثقافة الإسلاميتين. فقد ساهم الفكر الفلسفي المسيحي في ظهور الكلام الإسلامي كما استنسخ نظام الحكم الأتوقراطي الأموي النظرية الهرقلية في الحكم التي لا ترى الملك إلا بالاستناد إلى قداسة الدين. و ينبع التأثير الهرقلي في الحكم الأموي من المكانة التي يحتلها هذا الإمبراطور في الفكر الإسلامي في كل العصور. فهو الذي نزل فيه قرآن يبشر بانتصاره بعد هزائمه الأولى ضد الفرس،"غلبت الروم في أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون" الآية. و هو الذي أوشك على الاستجابة لرسالة محمد التي بعثها إليه يدعوه إلى الإسلام، لولا تدخل حاشيته. و لهذا فعندما نجد التشابه الكبير بين حكم هرقل و الأمويين الذي يتعدى الشكل الوراثي للحكم إلى الاتكاء على فلسفة القدر و الجبر الإلهي و دخولهما في جدل لاهوتي حيث اخترع الأول هرطقة "المونوثيلية" أو المشيئة الواحدة و استند الثاني إلى كل النصوص التي تدعم العقيدة الجبرية محاربا بضراوة العقيدة القدرية (التي تنفي القدر خلافا لما قد يفهم من تسميتها). فيحق لنا أن ندعي أن نمط الحكم الأموي ما هو إلا التجربة العملية للنظرية الهرقلية في الحكم، لكن في وسط احتضنها و طورها على عكس الوسط المسيحي الذي لفظها بعد موت هرقل مباشرة.
و لا أدل على ذلك مما ورد في معظم كتب التاريخ الإسلامي، أنه عندما أراد معاوية أن يعهد بالحكم من بعده لابنه اليزيد، دعا أهل الشام إلى البيعة بولاية العهد له من بعده فبايعوه و"أنه كتب إلى مروان بالمدينة أن يأخذ البيعة فخطب مروان فقال: إن أمير المؤمنين رأى أن يستخلف عليكم ولده يزيد سنة أبي بكر و عمر، فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقال: بل سنة كسرى و قيصر، إن أبا بكر و عمر لم يجعلاها في أولادهما و لا في أحد من أهل بيتهما" (تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 125). و الأكيد أن استحضار عبد الرحمن بن أبي بكر لكسرى و قيصر في جداله مع مروان بن الحكم لم يأت إلا عن تبصر و قرائن أخرى و لعل أهمها ما وصفه رشيد رضى في مجلة المنار بالاستبداد و الملك العضوض حيث قال عن معاوية "أنه هو الذي أحرج المسلمين حتى تفرقوا و اقتتلوا و به صارت الخلافة ملكا عضوضا ثم إنه جعلها وراثة في قومه الذين حولوا أمر المسلمين عن القرآن بإضعاف الشورى بل بإبطالها و استبدال الاستبداد بها" (المنار 3-9 لرشيد رضى ص212).
و بهذا تحول الخليفة، من خليفة حاكم زمني سابق إلى خليفة لله في أرضه و خلقه. مستبدا بالحكم، متنكرا للشورى، و لرأي الرعية فيه. فبعد أن أعلن أبو بكر و عمر عن استعدادهما للخضوع لتقويم الرعية لهما حتى بالسيف و انشراح صدريهما لذلك. ها هو معاوية يستعيد لوحة العلاقة بين الخليفة و رعيته بشكل كاريكاتوري، فقد "قال ابن عون: كان الرجل يقول لمعاوية و الله لتستقيمن بنا يا معاوية أو لنقومنك فيقول: بماذا؟ فيقول بالخشب فيقول إذن نستقيم." (تاريخ الخلفاء لجلال الدين السيوطي ص 125) ليصل التحول إلى مداه حين أعلنها صراحة عبد الملك بن مروان سنة خمس و سبعين مهددا من يناوئه بعد قتل الزبير بن العوام قائلا : "...ألا و إني لا أداوي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم ... و إنكم تأمروننا بتقوى الله و تنسون ذلك من أنفسكم، و الله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه" (الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزء الرابع ص46).
و قد ورد تعبير "خليفة الله في خلقه" أو "في أرضه" في عدة مواضع من كتب التاريخ للإشارة إلى خلفاء بني أمية و من جاء بعدهم. ومنها ما جاء على لسان أبي بكرة حين جاء معاوية شفيعا لأخيه و أبناء أخيه حيث قال:"... أعهد إليك يا أمير المؤمنين أن تنظر لنفسك و رعيتك، و تعمل صالحا فإنك تقلدت عظيما، خلافة الله في خلقه، فاتق الله فإن لك غاية لا تعدوها، و من ورائك طالب حثيث... إلخ" (تاريخ الطبري الجزء الخامس ص 169).
خلاصة
لا شك أن تلاقي الحضارات الثلاث الساسانية و البيزنطية و الإسلامية . كان سببا أساسيا في ظهور فلسفة الحكم بالأمر الإلهي و الشريعة الإلهية و الذي ينفذه حاكم يعتبر ظلا لله على الأرض أو خليفة لله في أرضه، في كل من الحضارة البيزنطية المسيحية و الدولة الأموية الإسلامية. إن لم نقل أن هرقلا رأى في هذه الفلسفة الساسانية الأصل مخرجا للصراع الديني و السياسي المسيحي و حاول نقلها إلى البيئة المسيحية التي لم تحتضنها طويلا حيث زالت بموته . لكن نسختها الإسلامية الأموية عمرت طويلا بعد أن شكلت نموذجا صلبا استطاع عبور كل السلالات الحاكمة و التقلبات السياسية التي مر بها العالم الإسلامي . مرورا بالعباسيين و المماليك و الفاطميين و السلاجقة و العثمانيين...إلخ . و يرجع السبب في ذلك إلى مسألتين أساسيتين:
أولاهما أن الإسلام ظهر في البيئة العربية القبلية التي كانت تعيش مرحلة طويلة من الفراغ السياسي و التبعية المكرهة لقطبي العالم آنذاك و هما الإمبراطوريتين الفارسية و البيزنطية، إضافة إلى أن الصدر الأول للإسلام لم يستطع نسج معالم نظام سياسي واضح. فجاء البديل الأموي ليسد هذا الفراغ التشريعي، بنموذج الملك الوراثي الأوتوقراطي، و الذي توارثته كل التجارب اللاحقة.
و الثانية، تتمثل في ورود أحكام لعدد من الأمور التشريعية في النصوص التأسيسية للإسلام عموما و في القرآن على وجه التحديد. و رغم الطابع التاريخي لكل هذه الأحكام و الذي يظهر من خلال التدرج و التغيير المتكرر لعدد منها أو تعطيل العمل ببعضها حتى خلال الفترة النبوية و "الخلافة الراشدة". فقد جاءت العقيدة الجبرية التي استند إليها الأمويون لتحنط النصوص التشريعية نازعة طابعها التاريخي بما يخدم دعوى الحكم بالأمر الإلهي الوارد من خلالها.
المراجع:
- أصل الدين لفيورباخ
- "أفيستا" الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية إعداد خليل عبد الرحمن
- موسوعة تاريخ الإمبراطورية الفارسية ، من قورش إلى الإسكندر تأليف بيير بريانت
- موسوعة قصة الحضارة – قيصر و المسيح أو الحضارة الرومانية – المجلد الثالث لويل ديورانت
- موسوعة قصة الحضارة – عصر الإيمان – المجلد الرابع لويل ديورانت.
- تاريخ الخلفاء لجلال الدين السيوطي.
- تاريخ الطبري- تاريخ الرسل و الملوك –المجلد الخامس- لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري.
- مجلة المنار– المجلد الثاني عشر – لرشيد رضى
- الكتاب المقدس العهد القديم (سفر القضاة و سفر نحميا)
- اللاهوت العربي ليوسف زيدان.