حول مؤسسات الإعلام و المدرسة، من حيث البنية و الوظيفة، يتصارع اتجاهان متعارضان، رغم اتفاقهما في كون التنشئة الاجتماعية هي الوظيفة الحصرية لهذه المؤسسات الاجتماعية، و رغم اتفاقهما النسبي أيضا حول تعريف "إيميل دوركهايم" للتنشئة الاجتماعية على أنها نقل لثقافة المجتمع بين الأجيال. إلا أن ارتباط هذه الوظيفة بالتقسيم الطبقي للمجتمع هو ما يشكل نقطة الخلاف الجوهرية بين الماركسية من جهة، و باقي الاتجاهات السوسيولوجية ك"البنيوية الوظيفية" و"الفردانية المنهجية" و"التفاعلية الرمزية" ، من جهة أخرى.
1- لينين: المدرسة أداة للسيطرة الطبقية البرجوازية:
لأنها تعتبر الصراع الطبقي هو أساس الديناميك الاجتماعي و "محرك التاريخ"، فإن الماركسية تربط بين كافة البنيات و الوظائف الاجتماعية، و من ضمنها المؤسسات الاجتماعية، و بين التقسيم الطبقي للمجتمع. ففي ظل المجتمع الطبقي، لا وجود لشيء اجتماعي غير طبقي، و لا وجود لمؤسسة خارج الطبقات، أو بشكل أدق خارج صراع المصالح الطبقية، و على رأسها تلك المؤسسة التي تلي الدولة من حيث الأهمية في التأثير على بنية المجتمع، و هي "المدرسة" فإذا كانت الدولة "أداة قمع طبقي" حسب لينين فإن المدرسة قد تحولت في المجتمع الرأسمالي "كليا إلى أداة للسيطرة الطبقية البرجوازية و أفعمت كليا بالروح الطبقية المنغلقة... هدفها إعطاء الرأسماليين أقنانا طيعين خدومين و عمالا فطنين" (لينين- المجلد 37 ص 76 ترجمة إلياس شاهين). فلكي يضمن المجتمع البرجوازي استمرار التدفق السلس لهذه المهمة الاجتماعية الحيوية، و هي مهمة خلق القوى العاملة الطيعة، على المدرسة أن تستمر في أن تكون طبقية بلبوس غير طبقي، و لهذا فالدولة البرجوازية "تكذب بمزيد من التفنن زاعمة أنه يمكن للمدرسة أن تقوم في معزل عن السياسة و تخدم المجتمع بأكمله" (لينين- نفس المصدر السابق و نفس الصفحة).
بشيء من التنسيب و بكثير من الدقة يدافع بيير بورديو و جون كلود باسيرون على نفس الطرح ونفس النقد للمدرسة البرجوازية في إطار نظرية إعادة الإنتاج الاجتماعي .
2- بورديو و باسيرون: المدرسة وإعادة الإنتاج الاجتماعي:
لا تختزل "مدرسة إعادة الإنتاج" أو "البنيوية التكوينية" المدرسة إلى مجرد أداة تلعب دورها الإيديولوجي الطبقي بشكل إرادي. لكنها تثبت لها هذا الدور ضمن وظيفتها العامة في إعادة الإنتاج الاجتماعي، أو بصيغة أدق، إعادة إنتاج البنية الطبقية للمجتمع. فلقد برهن كل من بيير بورديو و جون كلود باسيرون في عملهما الإمبريقي المشترك:
« La reproduction- éléments pour une théorie du système d’enseignement ».
"إعادة الإنتاج – عناصر من أجل نظرية في نظام التعليم". أن المدرسة تعيد ابن العامل إلى طبقة العمال كما تعيد ابن البورجوازي إلى طبقة البورجوازية، من خلال سلطة الاختبار و التقييم الذي يحكم على المكتسبات و المواهب، متجاهلا أصلها ومصدرها السوسيو ثقافي. إن هذه المواهب التي تقدرها المدرسة و التي تزكي أو تقصي على أساسها تجد مصدرها في مستوى رأس المال الثقافي الذي تغذيه الإمكانيات البرجوازية. فعلى أساس هذا المتغير الاجتماعي، إذن، يكون التفوق في المدرسة، كما أنه على أساس التفوق الدراسي تتحصل المكانة الاجتماعية:
« Ainsi, dans une société ou l'obtention des privilèges sociaux dépend de plus en plus étroitement de la possession de titres scolaires, l'école n'a pas seulement pour fonction d'assurer la succession discrète à des droits de bourgeoisie qui ne sauraient le faire. plus se transmettre d'une manière directe et déclarée. Instrument privilégié de la sociodicée bourgeoise qui confère aux privilégiés le privilège suprême de ne pas s'apparaitre comme privilégiés, elle parvient d'autant plus facilement à convaincre les déshérités qu'ils doivent leur destin scolaire et social à leur défaut de dons ou de mérites qu'en matière de culture la dépossession absolue exclut la conscience de la dépossession ».(Bourdieu et passeron- La reproduction- page 253).
و هكذا تصبح وظيفة المدرسة لا تقتصر فقط على إعادة إنتاج البنية الطبقية للمجتمع، بل تتعداها إلى إضفاء الشرعية على هذه البنية من خلال إقناع الطبقات المهيمن عليها أنها تستحق مكانتها الدنيا، وبأن البرجوازية في مكانها الطبيعي لأنها موهوبة.
فإذا كانت المدرسة تقدر فقط ثقافة البورجوازية، فالتلفزة تعمل على تسييدها وتطبيعها مع نمط حياة باقي الفئات الاجتماعية.
3- بورديو: "التلفزيون و آليات التلاعب بالعقول"
هو عنوان ترجمة كتاب بيير بورديو بعنوان:
« sur la télévision suivie de l'entreprise du journalisme ».
و الذي يعتبر فيه التلفزة أداة من أدوات الهيمنة الطبقية
البورجوازية و التي تعمل، مثل المدرسة وبشكل آخر، على إعادة إنتاج العلاقات
الاجتماعية للإنتاج، من خلال العمل على تعميم ثقافة البرجوازية على الأوساط الشعبية.
لكن كيف يمكن تبييء ثقافة غريبة في أوساط مقاومة بنيويا لها؟ يجيبنا بورديو على
هذا السؤال بعرض بسيط لتسلسل المواد التي يقدمها التلفاز ف "...الصورة التي
تقدمها الأحداث التلفزيونية عن العالم، تتابع لقصص ذات مظهر خال من أي معنى، تنتهي
بأن تتجمع كلها، عروض لا تتوقف للشعوب البائسة، تسلسل لأحداث تعرض دون تفسير،
تختفي دون تفسير و دون حل، اليوم الزايير، و بالأمس كانت بيافرا، و غدا الكونغو،
أحداث تسلب و تفرغ بالتالي من كل ضرورة سياسية... لا يتم تفريقها فعلا عن الكوارث
الطبيعية، و الأعاصير، و حرائق الغابات و الفيضانات... و هكذا فإن منطق المجال
الصحفي من خلال الشكل الخاص الذي يضفيه عليه التنافس تحديدا و من خلال الروتين و
عادات التفكير التي يفرضها من دون مناقشة، ينتج بالفعل تمثيلا للعالم هو صورة
لفلسفة للتاريخ تنظر إليه باعتباره تتابعا بلا معنى للكوارث التي لا نفهم منها
شيئا و التي لا يمكن عمل أي شيء تجاهها" (بورديو- التلفزيون و آليات التلاعب
بالعقول- ترجمة: درويش الحلوجي- ص 163-164). فالدور الإيديولوجي للتلفزيون إذن هو
إفراغ حياة البؤساء من المعنى و من الأمل في التغيير ليسهل بالتالي تسييد ثقافة
الفردانية البرجوازية فيها، بشكل مشوه طبعا، و هذا جزء مما يسميه ماركس
"الاستلاب"
4- الصناعة الثقافية و تسليع المنتوج الثقافي:
إلى جانب الأخبار و طريقة عرضها، التي تناولها بورديو، ترى مدرسة فرانكفورت أن الصناعة الثقافية، و التي تخصصت في نقدها خصوصا مع "ثيودورف أدورنو" و "ماكس هوركهايمر"، تلعب دورا أساسيا في بناء و إعادة بناء ثقافة الجماهير. و بما أن صناعة الثقافة أصبحت شأنا رأسماليا بالأساس و المنتوج الثقافي أصبح سلعة يتم تداولها لاستخلاص القيمة المضافة، فإن الموضوع الأساس للصناعة الثقافية لن يتجاوز محورين أساسيين، أولهما تسييد قيم الفردانية البرجوازية و ثانيهما تحييد مقاومة النظام الرأسمالي. و حول تأثيرها الصارخ على القيم السائدة يلاحظ أدورنو و هوركهايمر في كتابهما المشترك "جدل التنوير" أنه حتى "الطريقة التي تتواعد فيها شابة مع شاب في موعد لابد منه، و حتى اللهجة على التلفون و في المواقف الأكثر حميمية في المحادثات، كل ذلك قد صار إلى حد ما متوافقا مع النموذج الذي خطته الصناعة الثقافية. حتى مشاعر الناس تجاه بعضهم قد اتخذت أشكالا مجردة، فالشخصية لا تعني أكثر من أسنان بيضاء و غياب التعرق تحت الإبط و عدم الإحساس بالمشاعر. تلك هي النتيجة، إذ تمثلت في انتصار الإعلان في الصناعة الثقافية: فالمعلقون أجبروا ليكونوا تماما مثل المنتوجات الثقافية" (جدل التنوير، شذرات فلسفية- ماكس هوركهايمر و ثيودورف أدورنو- ص 195).
في سياق هيمنة الصناعة الثقافية البرجوازية، و سيادة المنتوج الثقافي الذي يتنمذج وفق متطلبات سوق السلع الثقافية، (ما يريده الجمهور). فما محل المثقف من الإعراب.
5- ثقافة السلطة وثقافة الهامش في نقد الفكر اليومي:
بالنسبة لأنطونيو غرامشي فالمثقف الحقيقي ليس إلا "المثقف العضوي" المرتبط عضويا و ثقافيا و قيميا بالطبقات الشعبية، مثقف يسبح دائما عكس التيار، يبدع في التصدي لهجوم الإيديولوجيات البرجوازية على قيم الشعوب. لكن هل هناك مثقف فوق الطبقات؟ و بتعبير آخر، هل هناك ثقافة لا طبقية أو عابرة للطبقات؟ في "نقد الفكر اليومي" يجيبنا الشهيد مهدي عامل أنه : "إما أن تكون الثقافة هامشية، فتكون حينئذ بالفعل ثقافة، أي أنها تكون إبداعية،... و إما لا تكون، أو تكون ثقافة النظام، أو ثقافة السلطة. بين هذه الثقافة النظامية – أو السلطوية – و بين الثقافة الهامشية تناقض هو نفسه القائم بين النظام-المجتمع، و بين الفرد. و التناقض هذا لا يقتصر على الوضع الراهن، بل ينسحب على التاريخ كله، يتكرر دوما في الصراع بين النظامي و الهامشي. من جهة الأول يأتي القمع، و من جهة الثاني يأتي الرفض الذي له، بالضرورة، طابع فردي. هكذا يكون المثقف إما مثقفا رسميا، أو مثقف سلطة، أي أداة قمع في يد السلطة، و إما هامشيا." (مهدي عامل – نقد الفكر اليومي. ص60).
المراجع:
- لينين: حول التعليم الشعبي، المجلد 37
- Pierre bourdieu et Jean-claude Passeron : « La reproduction- éléments pour une théorie du système d’enseignement »
- بيير بورديو: "التلفزيون و آليات التلاعب بالعقول" ترجمة درويش الحلوجي.
- ماكس هوركهايمر و ثيودورف أدورنو: "جدل التنوير، شذرات فلسفية"
- مهدي عامل: "نقد الفكر اليومي".