مثل باقي السلع التي تمر من الانتاج للتسويق فالاستهلاك، تخضع "الصحة" أو العلاج من المرض أيضا لقانون السوق و معايير العرض والطلب. رغم أن هذا يتنافى مع المبدأ التأسيسي لمهنة الطب، كما يرفضه العقل والحس السليم. إلا أن جائحة الرأسمالية لن تذر أخضرا أو يابسا في العالم الاجتماعي قادرا على ذر الارباح إلا وستوظفه لهذا الغرض، حتى وإن كان "صحة" الإنسان. يضعنا هذا أمام أول وأهم عامل لتطوير أي شيء في ظل النظام الرأسمالي، وهو القدرة على إنتاج المزيد من القيمة المضافة.
تناولت في مقال سابق لي بعنوان "الطب والرأسمالية" هذا الموضوع من جانب سوق صناعة الدواء. تناولت فيه مجموعة من الأمثلة حول علاقة حجم السوق بتطوير وإنتاج الأدوية. وأبرزت فيه أن شركات (مختبرات) صناعة الأدوية لا تهتم لشأن المرضى الذين يعانون من الأمراض الجديدة، بقدر ما تهتم لأعدادهم وقدرتهم على اقتناء الدواء الجديد. وهكذا فحتى في صناعة الدواء والطب أيضا، فكلما انحصرت السوق وقلت الأرباح المحتملة كلما ابتعد رأس المال عن الاستثمار فيها.
فإذا تجاوزنا المعضلة الأساس التي تقف أمام تقدم وانتشار العلاج السيكولوجي للاضطرابات النفسية والعقلية بالمغرب، وهي تسليع الصحة و تركها عرضة للمضاربة الرأسمالية. وإذا سلمنا بواقع ربط هذا التقدم والانتشار بسوق الصحة النفسية والعقلية بالمغرب. فيمكننا إذا صياغة الإشكالية في سؤال كالتالي: ما هي العوامل الأساسية التي تحد من الطلب الاجتماعي على العلاجات السيكولوجية للاضطرابات النفسية والعقلية في المغرب؟
لا أدعي أنني سأجيب على هذا السؤال في هذا المقال إجابة شافية، بقدر ما سأحاول وضع مجموعة من الافتراضات التي يبدو لي أن الواقع يسندها كثيرا. وإلا فإن هناك بعض الأبحاث والدراسات ضمن علم الاجتماع الطبي أو سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الشفاء والمرض التي تتناول هذا الموضوع من زوايا مختلفة منها آخر دراسة مغربية في الموضوع والتي أعدها الباحث في سوسيولوجيا وأنثروبولوجيا الصحة "يونس الوكلي" سنة 2021 بعنوان "أنثروبولوجيا الشفاء. الرقية الشرعية وصراع أنماط التدين".
ملحوظة: أستعمل في هذا المقال مفهوم "العلاج السيكولوجي" بالمعنى الذي يشمل الطب النفسي la psychiatrie وباقي التقنيات العلاجية المرتبطة بعلم النفس la psychologie عموما مثل تقنيات التحليل النفسي La psychanalyse وتقنيات العلاج المعرفي السلوكي les psychothérapies cognitivo-comportementale، وغيرها.
1- العامل السوسيو-ثقافي
أغلب الكتابات التي تتناول تاريخ الطب تؤكد أن أبو قراط الإغريقي قطع علاقة الطب بالسحر والدين لما وضع نظرية المزاجات الأربع لتفسير المرض. وهذا بالتأكيد غير صحيح . فإذا كان ذلك صحيحا عند فئات محدودة من الناس، وهي الفئات الأكثر ارتباطا بالفلسفة والعلوم. فالفئات العريضة في كل المجتمعات لا يؤطر العلم رؤيتها للعالم والتاريخ بقدر ما تلجأ للتفسيرات الساذجة، البسيطة وغير المرهقة للعقل التي يقدمها السحر والدين. فالمرض وخصوصا منه الأمراض النفسية والعقلية، وبسبب أعراضها التي قد تغير كثيرا في السلوك، لدرجة الاعتقاد في التغير التام للشخصية، فهي لا تزال مرتبطة في أذهان معظم الناس، حتى في المجتمعات الأكثر تعليما، بالتفسيرات الميتافيزيقية، أي أنها لا تزال مرتبطة بعالم الأرواح الشريرة أو عالم الجن والشياطين.
وفي المغرب، حيث تترسخ بشدة المعتقدات التي تربط مجمل الحياة الاجتماعية بالأبعاد الروحية، السحرية منها والدينية، فإن العامل السوسيو-ثقافي هذا هو الذي يشكل العامل الأساسي في انحصار سوق الطلب على العلاج السيكولوجي.
تربط الثقافة الشعبية والمعتقدات الدينية الشعبية بين معظم الاضرابات النفسية و أعراضها و بين الاعتقاد في عالم الجن و قدرته على التدخل في حياة الإنسان والتأثير على سلوكه وانفعالاته. وإذا كان الدين الإسلامي يؤكد الاعتقاد في عالم الجن، فإن أغلب الطقوس المرتبطة بعالم الجن ومزاراته وطقوس التفاعل معه وكل ما يتعلق بأصناف الجن ومراتبهم، يرجع بالأساس لما سماه "إدموند دوتي" "بأسلمة البقايا الوثنية القديمة" التي تعود لأديان ومعتقدات الأمازيغ ما قبل المسيحية والإسلام.
يلاحظ إدموند دوتي في كتابيه "الصلحاء، مدونات عن الإسلام المغاربي" و"السحر والدين في شمال إفريقيا"، كما لاحظت السوسيولوجيا الكلونيالية من قبله مع أستاذه مولييراس ولاكروا ودوفوكو وغيرهم، أن زيارة الصلحاء والأضرحة تشكل أهم الطقوس في الإسلام المغربي الشعبي على الإطلاق. حيث أنه الطقس الوحيد الأكثر انتشارا والذي تتم ممارسته من طرف الأغلبية الساحقة لأفراد القبائل المغربية أكثر من طقوس الصلاة والصيام. وتتم ممارسته بشكل منتظم في المواسم وبشكل استثنائي في الحالات الخاصة مثل حالات الاستشفاء من الأمراض سواء منها العضوية أو النفسية والعقلية التي يتم ربطها كما أسلفنا بالمس أو الجن. إن ملاحظة الرحالة والإثنوغرافيين الكلونياليين هذه والتي تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. والتي أكدتها من بعدهم دراسات وأبحاث سوسيولوجيا ما بعد الاستعمار مع "جاك بيرك" و"بول باسكون" ومحمد جسوس ولاتزال صالحة بالنسبة لإسلام المغاربة اليوم كما تؤكده أنثروبولوجيا عبد الله حمودي و حسن رشيق وغيرهم.
إن هذه الاعتقادات الراسخة في جدوى طقوس زيارة الأضرحة والأولياء الصالحين في الزوايا، وفي قدرتها على شفاء الاضطرابات التي يتم نسبتها إلى المس من الجن. لا تزال تستند إلى يومنا هذا على الحالات الكثيرة، وليست النادرة، التي تتماثل أو يبدو للناس أنها تماثلت للشفاء بعد زيارة هذا الضريح أو ذاك، أو هذا الولي أو ذاك. إننا نعلم اليوم أن الأثر النفسي للاعتقاد في جدوى الدواء يشكل نصف الأثر العلاجي. ولهذا يتعافى الزائرون المصابون ببعض الاضطرابات ذات الأسباب النفسية الصرفة من علاتهم إذا وفقط إذا تحلوا "بالنية" التي يؤكد عليها القائمون على المزار (دير النية).
إن استمرار هذه الفاعلية الاجتماعية الملموسة لزيارة الأضرحة والأولياء، هي ما يعمق ترسيخ المعتقد في عالم الجن و فعالية الاستشفاء عن طريق "الزيارة". و يجد استمرار هذه الطقوس العريقة في المغرب، ورغم محاربة الإسلام الأصولي لها بشتى الوسائل لاعتباره إياها "شركا بالله" تصنف على أنها أعظم الكبائر التي تخرج من الملة، والتي لا تغتفر إلا بالتوبة، فهي تجد دافع استمرارها في هذه الوظيفة الاجتماعية التي لا زالت تؤديها إلى جانب وظائف أخرى. فالوظيفة الاجتماعية لهذه البقايا الوثنية هو ضامن بقائها كما تؤكد سوسيولوجا جاك بيرك.
في بداية التسعينات ومع بداية انتشار المد السلفي الوهابي في المغرب ظهر مفهوم "الرقية الشرعية" في المغرب كما يؤكد الباحث "يونس الوكلي" في كتابه "أنثروبولوجيا الشفاء. الرقية الشرعية وصراع أنماط التدين" السالف الذكر. وهكذا فرغم الانحصار النسبي لطقوس زيارة الأضرحة فقد اجتاح البديل السلفي الجديد، "ظاهرة الرقية الشرعية" جل المجالات الحضرية و القروية ، وشكل و سيشكل في المستقبل المنظور، بسبب ارتباطه الوطيد بالمعتقدات الإسلامية، أكبر منافس للسيكولوجيا والطب النفسي والعقلي بشكل خاص.
2- العامل السوسيو-اقتصادي
تدفعنا ملا حظة التنوع الطبقي الهائل لرواد الرقاة والأضرحة والزوايا والمزارات، إلى الاعتقاد في محدودية تأثير العامل السوسيو-اقتصادي على تطور سوق العلاج السيكولوجي بشكل عام. لكن ارتفاع أسعار الفحص الطبي النفسي واستشارة الأخصائيين في علم النفس وتقنيات العلاج المعرفي السلوكي وغيرهم، بالإضافة إلى طول مدة العلاجات ما يتسبب في المزيد من رفع تكلفته. كل هذا يؤثر لا محالة في قدرة الطبقات الشعبية على اللجوء لهذا الخيار ما يدفعها للتشبث بالخيارات العلاجية الرخيصة مثل زيارة الأضرحة والرقاة.
ينضاف إلى كل ذلك محدودية أثر العلاج اسيكولوجي بسبب ضعف اعتقاد المصابين وذويهم بجدواه في أغلب الحالات. وهذا يعيدنا إلى العامل السوسيو-ثقافي الذي ناقشناه في المحور السابق.
3- العامل السياسي
سنة 2015 اتخذت حكومة العدالة والتنمية قرارا هاما بإخلاء ضريح "بويا عمر" الذي كان يحتجز أكثر من 800 مصاب باضطرابات نفسية وعقلية في ظروف لا إنسانية. لكن وفي غياب بنيات استقبال أخرى تضمن كرامتهم. تم إضافتهم إلى أعداد نزلاء مستشفيات الأمراض النفسية والعقلية التي تفوق طاقاتها الاستيعابية أصلا. وبالتالي انضافت هذه الأعداد إلى المختلين الذين يجوبون شوارع المدن والذين يعدون بالآلاف. حيث سبق وأقرت وزارة الصحة سنة 2013، أي سنتين قبل إغلاق "بويا عمر"، أن عدد المختلين عقليا الذين يجوبون شوارع الدار البيضاء وحدها يصل إلى 3000 شخص.
في ظل هذا الوضع يعرف قطاع الصحة النفسية والعقلية بالمغرب، بالإضافة إلى منافسة الخرافة ودجل "الرقاة الشرعيين"، إهمالا كبيرا من طرف الدولة التي لم توفر سوى 27 مستشفى للأمراض النفسية والعقلية لا تتعدى طاقتها الاستيعابية مجتمعة 2238 سرير. أما طاقم الأطباء في القطاعين العام والخاص في هذا التخصص فلا يتجاوز 290 طبيبة وطبيب بمعدل أقل من طبيب لكل 100 ألف نسمة، 5 فقط منهم في القطاع العام هم المتخصصين في الطب النفسي للأطفال. أما في ما يخص النسبة المرصودة لأدوية الاضطرابات النفسية والعقلية من ميزانية وزارة الصحة والتي توصي منظمة الصحة العالمية بأن تصل إلى 10 في المئة فهي لا تصل إلا إلى 1 في المئة.
إن السياسة الصحية للدولة والتي تتجه نحو الخوصصة التامة للقطاع، تضع أكثر فأكثر الطب عموما والطب النفسي والعقلي في محك تحكم السوق وقانون العرض والطلب، و أمام المنافسة الشرسة للخرافة المتجذرة في الثقافة الشعبية. فالأكيد أن الغلبة لن تكون إلا للرقاة و القائمين على الأضرحة.
يدعي المثقفون المحافظون أنه من الصعب إحداث "التغير الثقافي" اللازم للقطع مع الخرافة والجهل. ويتناسون أن السوسيولوجيا القانونية تعلمنا أن القانون فاعل اجتماعي، بل هو من أكثر الفاعلين الاجتماعين قوة وتأثيرا. فلطالما علمنا التاريخ أن معالم ثقافية انمحت وأخرى نشأت بفعل القانون أو بفعل تشريعات معينة. صحيح أن مخاض التغير الثقافي عسير وطويل الأمد. لكن القانون كفيل بفتح الطريق. فلو كانت محاربة الدولة للخرافة والدجل جدية مثل "حربها على الإرهاب". ولو كانت فعلا تهمها الصحة النفسية والعقلية للمواطنات والمواطنين، فسيقوم الإعلام بالتحسيس والمستشفيات العمومية باستقبال المرضى والسجون باستقبال الدجالين، وستتحول طقوس زيارة الأضرحة إلى فلكلور يذكرنا بالماضي الثقافي فقط.