نتيجة لجهد عقلي و معرفي كبير، و بعد صراع مرير بين الباراديغم القديم المتأصل في بنية العلم، و الباراديغم الجديد الذي يشق طريقه نحو مركزه على مضض، يستطيع في نهاية المطاف بعد سنوات و ربما عقود من الصراع أن يحتل الاكتشاف الجديد مكانه و ينال اعتراف الوسط العلمي. و لكن، خارج هذا الوسط ، فلا تتأصل المعرفة الجديدة في الوعي و الثقافة إلا بعد تعاقب أجيال و أجيال . فإذا كانت البراهين العلمية تقنع العقل، حيث تفترض إجراء عمليات ذهنية معقدة تعمل على دحض المعرفة القديمة و تبديلها بالجديدة ، هذه العمليات الغير متاحة لجميع الناس لعدة أسباب، فإن السلوك و الفعل الإنساني الواعي و الانفعالات الشعورية و اللاشعورية تحركها قوة أكبر من العقل، قوة تنتج عما يمكن أن نسميه العقل الباطن، الذي يختزن في شكل أوامر لا تناقش كل ما تعودت الذات على فعله، فيصبح بفضله الفعل الواعي العادي والمعتاد مثل الانفعالات اللاشعورية . و تصبح استجابات الفرد للوضعيات المحددة في الحقول المحددة هي استجابات العادة التي لا تحتاج للبرهان من جديد.
فهل تخلص الطب (كمهنة معالجة الأمراض بشكل عام و ليس كعلم مستقل و متخصص) من رواسب الثقافة الأرواحية « Animisme »، هذه الثقافة التي استفاض في تحليلها الأنتروبولوجي الإنجليزي إدوارد تايلر في كتابه « civilisation primitive » ، و التي عمرت لعشرات آلاف السنين. فرغم الثورة الأبقراطية فقد حاربت الكنيسة الطبيبات على أنهن ساحرات تعالجن الأمراض التي تسببها الأرواح الشريرة بالسحر ، و رغم الثورة الباستورية و ثورة الميكروبيولوجي لازالت نظرية الأخلاط أو المزاجات الأربعة الأبقراطية سائدة في الطب التقليدي و الثقافة الشعبية بالإضافة إلى ترسبات الثقافة الأرواحية. فهل استطاعت التطورات الكبرى التي عرفتها علوم البيولوجيا و الفيزيولوجيا و الطب أن تقضي على "الرقية الشرعية" أو "العلاجات السحرية من المس الشيطاني"؟
و هل تخلصت التصورات الشعبية للكون من نظرية مركزية الأرض البطليمية بفضل ثورة كوبيرنيكوس؟ و هل انمحت خرافة الأرض المسطحة بفضل اكتشاف كروية الأرض الذي يعود للعصر الهلنستي حوالي القرن الثالث قبل الميلاد؟ ألا تعج مواقع التواصل الاجتماعي حتى اليوم بمن يدافع على خرافة الأرض المسطحة؟ إنه لمن المضحك أن تجد في القرن العشرين بعض شيوخ الوهابية يهاجمون "يوسف القرضاوي" لكونه يقر بكروية و دوران الأرض . لكنها الحقيقة، حقيقة أن الوهابية تعكس بكل صدق قوة العادة في مواجهة البرهان العلمي.
فكما قال "بليز باسكال" في « pensés »: "إن البراهين لا تفحم إلا العقل، و العادة تصنع أكثر البراهين قوة و تصديقا. فهي تميل الآلة و هذه تجر العقل دون أن يفكر." فالعادة أقوى من البراهين العلمية ، لأنها تورث و تقدم الإجابات السهلة المريحة للعقل، فالجميع يؤمن بها و يفكر من خلالها و يتصرف طبقا لها فلا تشكل قلقا للفرد لا فكريا و لا أخلاقيا و لا اجتماعيا . أما البراهين العلمية فلا يأتي من ورائها إلا الصدامات الحادة مع اللاوعي و الواقع و المجتمع فكل ما يأتي من ورائها جديد سيصطدم لا محالة بحراس قلاع العادات و التقاليد.
تشكل هذه العادات و التقاليد التي تتقدس في الدين أساس الثقافة ، الثقافة بالفهم الأنتروبولوجي العام الذي أجمله "إدوارد تايلر" في كتابه المذكور آنفا في قولته الشهيرة: "مفهوم الثقافة أو الحضارة في معناه الإثنوغرافي الواسع، هو ذلك الكل المعقد الذي يشمل في آن واحد، العلم و المعتقدات و الفنون و الأخلاق و القوانين و التقاليد و باقي الكليات و العادات التي يكتسبها الفرد في المجتمع." و بهذا المعنى فثقافة مجتمع ما ، ثقافة واحدة ، متنوعة و متناقضة يشكل أساسها التراث الثقافي في أبعاده الدينية والاخلاقية و القانونية التقليدية التي تكرس بفعل العادة، و لا تفعل فيها العلوم إلا كما تفعل الطفرات في مسار تطور الأنواع.
نتلقى تراثنا الثقافي منذ أول اتصال لنا مع العالم ، نتعلمه عن طريق اللغة مفاهيم مجردة و مقولات تنحث في أذهاننا بعناية، نتعلمه من الأسرة و المدرسة و المجتمع حكايات و خرافات و حقائق و معارف جاهزة ، و نتعلم كيف نفكر في تراثنا و من خلاله . و هذا ما يجعل طبيعة و نمط هذا التراث هي ما يتحكم في حاضرنا و يرهن مستقبلنا. يقول الجابري في "نحن و التراث" : "أجل، كل الشعوب تفكر بتراثها. و لكن، فرق واسع جدا بين من يفكر بتراث ممتد إلى الحاضر و يشكل الحاضر جزءا منه، تراث متجدد يخضع باستمرار للمراجعة و النقد، و بين من يفكر بتراث توقف عن النمو منذ قرون، تراث تفصله عن الحاضر (مسافة علمية) طويلة".