تخطي للذهاب إلى المحتوى

التجليات الثقافية للبعد الإفريقي في هوية الشعب المغربي

أنس عوينات
24 أبريل 2024 بواسطة
أنس عوينات
لا توجد تعليقات بعد

أبعاد هوية الشعب المغربي:

      تشكل الشعب المغربي في خضم تاريخ طويل من التحولات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية و الإثنية، أدت إلى تكون تراكم ثقافي زاخر أغنى الهوية الحالية للشعب المغربي المتنوعة و المتعددة الأبعاد و التي تحتل فيها الأمازيغية و العروبة و الإسلام إضافة إلى البعد الإفريقي و المتوسطي، مكاناتها المحددة بتجلياتها الظاهرة في الثقافة الشعبية، بما هي ذلك التصور الجماعي للعالم و التاريخ و بما هي المحدد الرمزي للعلاقات الاجتماعية و نمط العيش و أساليبه و منظومات الاعتقاد و نمط التدين و الضمير الجماعي. و تشكل اللغة ذلك المعبر الأول و الأساسي على هذا التنوع الثقافي حيث تختزن في مقولاتها المشكلة لها (أي اللغة) و التي لا تنفصل عن الوعي المؤسس (بكسر السين الأولى) لهذه المقولات و المؤسس (بفتح السين الأولى) منها. تختزن كل هذا التنوع و التعدد. وهو ما يفسر غنى و زخم الدارجة العربية المغربية المليئة من حيث الشكل بمصطلحاتها الأمازيغية و اللاتينية بالإضافة إلى العربية. و غنى و زخم "الدارجة" الأمازيغية المغربية (إن صح التعبير) المليئة أيضا من حيث الشكل بمصطلحاتها العربية و اللاتينية بالإضافة إلى الأمازيغية. و الأكيد أن كلا الدارجتين لا تخلوان أيضا من مصطلحات قادمة من جنوب الصحراء من لغات السودان الغربي الذي ربطته مع المغرب علاقات سياسية و اقتصادية و ثقافية تعود إلى زمن الغزو العربي لشمال إفريقيا على الأقل. و إلا فإنها تعود إلى حقب ما قبل التاريخ.

تاريخ العلاقات الاقتصادية و السياسية بين المغرب و السودان الغربي

     لقد عرف السودان الغربي الممتد ما بين موريتانيا و مالي و النيجر شمالا و تشاد و إفريقيا الوسطى شرقا و المحيط الأطلسي جنوبا و غربا. عرف حكم أربع مملكات تزامنت و تعاقبت على حكم هذه المنطقة و هي على التوالي مملكة غانا و مالي و صنغاي . و منذ الغزو العربي لشمال إفريقيا تعرف العرب على هذه المنطقة الغنية بالذهب عن طريق الحملات العسكرية التي بعثها كل من عقبة بن نافع الفهري و موسى بن نصير إلى الحافات الشمالية للصحراء الغربية و وادي درعة التي شكلت فيما بعد معبرا أساسيا نحو السودان الغربي و طريقا للقوافل التجارية. و بعد ذلك قاد حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع حملة عسكرية تعدت مناطق السوس الأقصى إلى تخوم السودان الغربي. و هي الحملات التي أمنت تدفق ذهب السودان الغربي نحو الشرق الإسلامي عبر شمال إفريقيا.

      كما أدى إدخال طوارق الصحراء الغربية في الإسلام على عهد الأدارسة الذين استعانوا في ذلك بالقبائل الأمازيغية خلال القرن الثامن م  و الفاطميين خلال القرن العاشر الميلادي استمرار هذه العلاقات الاقتصادية التي سمحت بولوج عدد من القبائل العربية المسلمة إلى كل من السينغال و النيجر في السودان الغربي. و من ثم بدأ التأثير الثقافي و الحضاري في هذه المنطقة. كما ساهمت مملكة "أوداغست" الإسلامية (بموريتانيا حاليا) في بداية نشر الإسلام في وسط مملكة غانا.

     و قد أدى غزو المرابطين لمملكة غانا بعد الاستيلاء على "أوداغست" خلال القرن الحادي عشر الميلادي إلى نشر الإسلام الصوفي السني على كامل ضفاف نهر السينغال و النيجر.

      و قد تعاقب بعد ذلك على حكم المنطقة مملكتين إسلاميتين هما مملكة مالي و مملكة صنغاي حيث استمرت العلاقات الاقتصادية التي تطورت إلى أبعاد ثقافية و حضارية بعد أسلمة السودان الغربي بين هاتين المملكتين و باقي الأنظمة التي تعاقبت على حكم المغرب الأقصى .

      و لم تخلوا هذه العلاقات من اضطرابات سياسية و اقتصادية أبرزها احتلال مملكة صنغاي من طرف أبرز حكام الدولة السعدية و هو "أحمد المنصور الذهبي" الذي قام بإذلال أهم المراكز الثقافية و الحضارية بالسودان الغربي كما يصفها "البكري" و هي مدينة "تمبكتو" باقتياد أهم أعلامها الدينيين "أحمد بابا" المعروف "بالتمبكتي" إلى مدينة مراكش حيث أقام بها، أسيرا مذلولا لسنتين، و عالما جليلا مقربا من المنصور الذهبي بعد ذلك، إلى أن أصبح معلمة تسترشد بها القبائل المغربية بكل من  مراكش و فاس اللتين قضى بينهما أزيد من 14 سنة، وقد كانت تستشيره في دينها و دنياها .

الإسلام بين المغرب و السودان الغربي

      لقد وطد دخول الإسلام إلى السودان الغربي عبر المغرب الصلات الثقافية و الحضارية بينهما. فقد انتقلت مع الإسلام أبعاد الثقافة الأمازيغية القبلية المغربية، عبر الفقهاء، الذين استمر بعثهم لهذه المنطقة من طرف جل السلالات التي تعاقبت على حكم المغرب وخصوصا المرابطين الذين سنوا هذه العادة والموحدين والسعديين والعلويين . كما ارتدت عبر الإسلام أيضا أبعاد الهوية السودانية الغربية المحملة بالثقافات المحلية لسكان مالي والسينغال والنيجر وغيرها من شعوب السودان الغربي. وقد شكل أحمد بابا التمبكتي أبرز عوامل هذا الارتداد.

      و تتجلى هذه الصلات أساسا في تشابه نمط التدين المغربي المتميز على نظيره المشرقي والذي امتد وانتشر في كافة ربوع السودان الغربي عبر فروع الطرق الصوفية المغربية  الأصل كالطريقة التيجانية المنتسبة لأبي العباس أحمد التيجاني الجزائري والذي درس بفاس وأسس طريقته بولاية الأغواط بالجزائر في أواخر القرن 19م، والتي تنتشر حاليا بكل من المغرب وموريتانيا والسينغال ونيجيريا. والطريقة  الشاذلية لمؤسسها أبي الحسن الشاذلي المغربي و الذي درس في تونس و أسس طريقته بالإسكندرية بمصر وانتشرت في المشرق وأسس فرعها المغربي وهي الطريقة الشاذلية الدرقاوية "محمد العربي الدرقاوي"، الذي ينتسب إلى قبيلة بني زروال الأمازيغية في القرن الثامن عشر الميلادي. وقد عرف عند أتباعه كأحمد بن عجيبة ومحمد بن أحمد البوزيدي وغيرهم بأنه مجدد الطريقة الشاذلية. أو الطرق الصوفية القادمة من الشرق والتي تمت تبيئة فروعها المغربية وأشهرها وأكثرها انتشارا الطريقة القادرية التي تنتسب لعبد القادر بن أبي صالح بن عبد الله الجيلاني الحسني، المعروف اختصارا بعبد القادر الجيلاني المزداد بجيلان بشمال إيران في القرن 11م. ومن فروعها المنتشرة في كل من المغرب و السودان الغربي هناك: القادرية المحمدية والقادرية الكنتية والقادرية البودشيشية والقادرية الجيلانية... إلخ.  

الفن والموسيقى بين المغرب و السودان الغربي

      تشكل الموسيقى الشعبية أهم تجليات البعد الإفريقي في الهوية الثقافية للشعب المغربي الناتج عن الروابط الثقافية الضاربة في القدم بين المغرب والسودان الغربي. ويتمظهر أساسا في تشابه الإيقاعات الشعبية المغربية بنظيراتها في كافة بلدان السودان الغربي.

     وتبقى الموسيقى الغناوية ذات الأصل المالي والتي طبعت معظم الإنتاج الموسيقي الشعبي بالمغرب وخصوصا الأغنية الغيوانية، أبرز شاهد على الأثر الفني للبعد الإفريقي في هوية الشعب المغربي.  ويعود أصل موسيقى غناوة التي حملها العبيد المهجرون في القرون الوسطى من أعماق السودان الغربي وخصوصا من مناطق مالي وغانا وغينيا نحو شمال إفريقيا والذين شكلوا قبائل منتشرة أساسا في المغرب والجزائر.

     و يُعتقد أن أصل إسم "غناوة" يعود إلى أصل هؤلاء العبيد الذين كانوا ينتمون إلى مملكة غانا التي امتد حكمها على معظم خريطة السودان الغربي وذلك لتشابه لفظي "غانا" و"غناوة"، و يعتقد البعض أن تسمية "غانا" و "غينيا" أيضا يعودان أصلا إلى الكلمة الأمازيغية "أغناو" وجمعها "إغناون" و التي تعني الأعجمي الذي لا يفهم الأمازيغ كلامه وقد أطلق أمازيغ شمال إفريقيا هذا الإسم على كل سكان السودان الغربي غير الأمازيغ.

     موسيقى غناوة هي تلك الموسيقى الطقوسية التي تعتمد أساسا على الغانغا (الطبيلات) والقرقبات والهجهوج والتي ترافقها رقصات وأهازيج روحية عربية تتخللها عبارات مالية أصلية. تدل على استمرار انبعاث المنبع الثقافي الأصلي رغم أنها طبعت في شمال إفريقيا بطابع صوفي لم يؤثر في طقوسيتها إلا من حيث الكلمات. حيث انتقلت موضوعاتها من أساطيرها المؤسسة (بكسر السين الأولى) إلى خرافات الجن والعفاريت في عالم التصوف الإسلامي. لتنتقل فيما بعد ورغم اسمرار خطها الخرافي إلى أرضية فنية للتعبير عن تطلعات الشعب المغربي ومعاناته مع الأغنية الغيوانية وتقنيات الميكساج الشبابية الحالية.  


في
تسجيل الدخول حتى تترك تعليقاً